إلى الجنوب من مدينة الخليل، يتربع مخيم الفوار للاجئين الفلسطينيين على جانب تلة شاهقة يضم بين جنباته سجلاًّ من الذكريات والألم يعود تاريخها لأكثر من 65 عامًا!.
عندما تحط بك الرحال على مدخل المخيم من جهة مدينة دورا وتبدأ بالتجوال بين أزقته الضيقة تختلجك مشاعر الألم وتنحسر الدموع في المقل ويقشعر البدن على حال سكان المخيم الذين ما زالوا يأملون بالعودة إلى قراهم التي هجروا منها " عراق المنشية وبيت جبرين والفالوجة " التي ما زالت حاضرة في ادبياتهم وحكاياتهم وسمراتهم الليلية في ديوان المخيم.
سعيد ( 32 عاما ) ما زال يستذكر حكايات والده الحاج خميس رصرص، المولود عام 1920 في بلدة الفالوجة فيقول " كان أبي يروي لنا حياتهم الهادئة الآمنة وكان والد أبي يملك أرضا كبيرة ومواشي وأبقار ، وكان أعمام والدي ، يفلحون الأرض ويزرعونها دون والدتهم التي توفيت وهو في مرحلة الرضاعة، إلى أن بدأت هجمات العصابات الصهيونية عام 1948-1949 لتقتل وتشرد أكثر من ثمانية آلاف إنسان كانوا يعيشون فيها.
ويضيف سعيد لـ "أمامة" أن والده حدثهم أن عصابات الاحتلال بدأت بالدخول إلى القرى العربية ومع سماعهم لذلك قام جده ببيع الأبقار والمواشي واشترى مع سكان القرية السلاح من أجل الدفاع عن أراضيهم وبيّاراتهم الزراعية، التي كانت تشكل كل حياتهم آنذاك، إلا أن الشرطة البريطانية لم تتوان لحظة واحدة عن مساعدة اليهود المهاجمين، فبدأت باعتقال كل من تجد لديه قطعة سلاح "البارودة" كما كانت تسمى.
خذلان العرب وقلة الحيلة
ويروي سعيد أن والده أخبره عن اللحظات الأولى لسقوط القرى واحدة تلو الأخرى فيقول :كلما سقطت قرية من القرى المجاورة بالفالوجة، حيث كان الرجال يستعدون لمحاولة "الفزعة" وصد الهجوم عن تلك القرى، مع الجيش المصري الذي كان يخوض مهام الدفاع عن القرى الفلسطينية التي تتعرض لهجمات العصابات.
ويضيف " إلا أن الضباط المصريين كانوا يمنعونهم ويقولون " استنوا،هم بياخدوها بالليل ونحنا بناخدها بالنهار "، زادت هجمات اليهود على القرى المحيطة بالفالوجة، وبدأ الفلاحون بالهجرة نحو القرية طلبا لحماية الجيش المصري، حيث بدأت ضربات اليهود ترمي بثقلها نحوهم، الأمر الذي دفعهم نحو رحلة اللجوء في اتجاه الخليل وقطاع غزة والأردن .
ويقول سعيد أن والده أكد له أن "الجيش المصري توقف عن المقاومة بعد نفاذ ذخيرته، وغادر المكان، بالإضافة إلى هجرة معظم سكان القرية الجميلة، ولم يتبق فيها سوى قرابة 1000 شخص من المسنين والعجزة وأصحاب الأملاك والأراضي، وهو كان من بين الباقين لحراسة آبار القمح والشعير حيث كانوا يطمرونها آنذاك في آبار لتخزينها، وحمايتها من السرقة".
بداية الهجرة عن الفالوجة
ينقل سعيد عن والده المرحوم الحاج خميس رصرص " أن بداية الشتات لوالده بدأت بعد سقوط قريته أثناء انتهاء الهدنة التي عقدها الصليب الأحمر الدولي بين الجيش المصري قبل مغادرته والعصابات الصهيونية التي كانت تقوم باقتحامات ليلية لتخويف من تبقوا، حتى تم قتل أحد المسنين بالرصاص، الأمر الذي روعهم وطلبوا من الصليب الأحمر جلب الحافلات لتقلهم إلى قطاع غزة والخليل.
توجه خميس رصرص برفقة عدد من اللاجئين إلى بلدة اذنا شمال غرب الخليل، وقلبه معلق هناك في الفالوجة حيث آبار القمح والشعير المخزونة في جوف الأرض، ثم يبدأ حكاية اللجوء في مخيم مؤقت أقيم على مشارف بلدة اذنا، حتى تم نقلهم إلى مخيم الفوار جنوب المدينة.
ويضيف سعيد عائلة والدي تفرقت عمي الذي كان يحرس الأغنام هاجر إلى الأردن، أما أمي وأخي الأكبر وعمي هاجروا إلى قطاع غزة قبل أن يعيدهم والدي إلى المخيم هنا ".
أول بيت في مخيم الفوار
ويذكر سعيد لـ "أمامة " حكايا والده عن أول بيت بني في مخيم الفوار للاجئين الفلسطينيين جنوب مدينة الخليل المحتلة .
ويقول - سعيد - أبي أول من بنى منزلا في المخيم ومفاتيح العودة معلقة على جدران المنزل ، أبي كان شاهدا على كل حجر استخدم في بناء منازل المخيم عام 1958، والذي استغرق عامين فقط ليصبح اسمه مخيم الفوار للاجئين الفلسطينين ب".
ويضيف تم تعيين والدي من قِبل وكالة الغوث (أونروا) كمساعد لمدير وكالة الغوث في المخيم، كونه متعلّماً حتى الصف الرابع قبل النكبة، حيث استبدل بيده الخيام البالية بالقطع الاسمنتية.
ويؤكد سعيد ان والده رحل عن الدنيا وهو ما زال يحلم بالعودة الى قريته الفالوجة ويقسم سعيد أن سيحفظ العهد مع اخوانه وأبنائه ولن يبيع او يخون او يفرط بالكوشان والمفتاح حتى لو عبؤوا منزله بالذهب والدولارات ويضيف أنا من الفالوجة وسأعود اليها بإذن الله ".
في الذكرى الثامنة والستين، لا يزال الفلسطينيون يعيشون على أمل العودة إلى ديارهم لم ترهقهم أيام القهر في المخيم ولا الشتات، وإنما زاد إصرارهم على التمسك بتلابيب هذا الوطن رغم المؤامرات التي تحاك ضد قضيتهم.. فمشاريع التوطين ومشاريع التآمر على حق العودة كثيرة، لكن بريق الذهب والمبادرات الوهمية كمبادرة جنيف وغيرها لم تحرف حدقات عيونهم عن بيت جبرين والدوايمة والفالوجة وغيرها، وبذلك ستبقى القضية حية متقّدة في القلوب والعقول والوجدان.(1)
(1) موقع امامة http://www.omamahps.com/