معلومات إضافية


مخيم عين عريك بين ينابيع الحياة ومعاناة اللجوء

 أديب زيادة

 كغيره من المخيمات البائسة الممتدة في ساحات الوطن والشتات، يتربع مخيم عين عريك على سفح ذاك الجبل ملتصقاً بقرية عين عريك التي سمي باسمها إلى الغرب من مدينة رام الله حيث لا يبعد عنها سوى حوالى عشرة كيلومترات. وهو مخيم آخر من مخيمات اللجوء التي لا تعترف بها الأونروا، ما يعني قلّة في الخدمات التي يتلقاها وشحّاً في الموارد.جاء إلى هذا الموقع الآلاف من اللاجئين بعد النكبة، ففي طريق هجرتهم من قرى عنابة وعاقر وأشوع وأبو شوشة والسافرية والسوافير وعسلين والبرج وجمزو والقباب واللد والرملة ويافا والبرية، جلس المعذَّبون على قمم الجبال وفي سفوحها، سكنوا الكهوف والمغاور قبل أن تمنَّ عليهم مؤسسات الإغاثة بالشوادر والخيم كي تَقيهم حرّ الشمس وبرد الشتاء. كثيرون منهم طافوا القرى والبلدات بحثاً عن مأوى ملائم لعيش كريم فقدوه، وأخيراً استقر بهم المقام حول ينابيع من المياه حباهم بها رب العالمين في بلدة عين عريك المشهورة بستّ من عيون الماء، كما قال محمد وهدان (52 سنة) من عنّابة.

ورغم محاولات نقلهم إلى مكان آخر، إلا أن اختيارهم كان أن يظلوا قرب ينابيع الماء الوفيرة التي تخفف عنهم شظف العيش رغم بقائهم حتى عام 2000 من دون شبكة مياه مركزية تصل البيوت، كما يقول رئيس اللجنة الشعبية السابق وعضوها حالياً أحمد خطاب (44 سنة) من قرية البرج. فقد كان الاحتلال يمنع شركة المياه من توصيلها إلى بيوتنا رغم حيازتنا كل الأوراق اللازمة، لقد كانوا يستمتعون بعذاباتنا حيث بقي هذا الحال حتى 2000 كما أفاد وهدان، فقد كان كثير من النساء حتى تاريخه ينقلن الماء بالدلاء على الرؤوس إلى البيوت، فضلاً عن أنّ كل عائلة حرصت على وجود بئر في منزلها للتغلب، ولو جزئياً على هذه المشكلة.

الكبار ما زالوا يتذكرون ويروون

يتذكر رباح موسى (أبو ناصر - 65 سنة) من البرية بداياته في المخيم حيث يعود بذاكرته إلى أيام الطفولة قائلاً بألم مَن أَعيته الغربة والسنون: كنت طفلاً صغيراً حين دخلنا مشردين قرية نعلين ثم المزرعة الغربية ثم بيت عور الفوقا بحثاً عن المكان المفقود إلى أن استقر بنا المقام في عين عريك سنة 1952، حينها سكنّا بيوتاً مسقوفة بجذوع الشجر والقش المخلوط بالطين، لقد كانت الفئران والأفاعي تسرح وتمرح على تلك الأسقف، لدرجة أنها سقطت أكثر من مرة في صحن الدار محدثة بيننا فزعاً رهيباً، كانت حياة بؤس وشقاء وفقر بكل معنى الكلمة، لم نكن نعرف حمّاماً داخلياً في بيوتنا، بل كانت الناس يقضون حاجاتهم في الخلاء وتحت الشجر ليلاً.

ويواصل شهود مرحلة التأسيس لهذا المخيم تقديم شهاداتهم، فالحاجة مريم منصور(76 سنة) من أشوع التي خرجت كآلاف اللاجئين من قرية زوجها عسلين ولم يتعدّ عمرها آنذاك خمس عشرة سنة، تقول: عشية النكبة لم نكن نشعر بالأمان، كنا نخرج في الليل إلى الجبل ننام تحت الزيتون، وفي النهار نعود إلى القرية، حينها سمعنا عن مجزرة دير ياسين، فقرر أهل القرية الخروج خوفاً على الأرواح والأعراض، توجهنا إلى راس أبو عمار ودير الهوى، ومنها رحلنا إلى بيت ساحور فالعيزرية فأريحا، وهناك كان لدي بنت كادت تموت من الحرّ، فقررنا الخروج إلى مخيم عين عريك حيث سبقنا والداي وأهلي، وعندما وصلنا إلى عين عريك شجعَنا على البقاء فيها وجود ينابيع المياه الوفيرة، وعندها مكثنا في سقائف أشبه بالطوابين يعلوها النتش المخلوط بالطين والشِّيد.. بقينا هكذا إلى أن بنت الوكالة لعائلتنا الكبيرة غرفتين متواضعتين بقينا فيهما إلى أن منّ الله علينا فهدمناهما وبنينا مكانهما في السبعينيات ما هو أكثر أمناً.

وتلتقي روايات الشهود وتتشابه، فالحاجة مريم جابر (81 سنة) من عنابة، خرجت منها متزوجة ليستقرّ بها المقام في أريحا قبل أن تعود وزوجها أدراجهما نحو مخيم عين عريك حين سمعا عن توافر فرص أقل سوءاً للعيش. تستذكر الحاجة جابر مبيتهم ليالي كثيرة قبل يوم التهجير خارج القرية في السهل وفي الوعر، حيث كانوا يعودون إلى القرية مع طلوع شمس اليوم التالي خوفاً من مباغتة اليهود القرية ليلاً كما حصل في دير ياسين، وبالفعل لقد دخل اليهود القرية ليلاً وأخذوا يطلقون النيران في كل اتجاه، ما دفعنا إلى الهروب بأطفالنا ونسائنا ومن بقي من رجالنا.

وما زالت الحاجة مريم عيّاد تتذكر كيف كان المسلحون المجاهدون من الرجال يسهرون على أمن البلد في غياب الجميع عنها ليلاً، فقد كان كلّ بيت يستبقي شاباً مسلحاً للدفاع عنها في وجه العصابات الصهيونية في حال مباغتتها القرية، وفي هذا الإطار بقيت الحاجة عياد تفاخر بزوجها وتتندر؛ إذ باع ذهبها في عنابة كي يشتري بندقية للدفاع عن القرية حيث كتب لها الأهل مقابلها قطعة أرض مزروعة، فذهبت الأرض وذهب الذهب كما تقول.

تؤكد المرأة العجوز شهادتها على بدايات المخيم، حين تؤكد أنها وأهلها سكنوا المغاور وبنوا سقائف من حجارة وطين بعد أن مكثوا سنتين تحت الخيم والشوادر، حيث بنوا بعدها سقائف أكبر قبل أن تأتي الوكالة لتبني لهم غرفاً من طوب هدموها لاحقاً بعدما تحسنت الأحوال.

 بين «النكبة» و«النكسة»

يقوم المخيم على نحو عشرين دونماً من الأرض حيث إنّ نصفها مسجل على أنه أراضٍ للأوقاف استأجرتها الوكالة، وكانت تدفع للأوقاف أجرتها حتى وقت قريب، ونصفها الآخر يعود إلى أهالي قرية عين عريك أقام عليها اللاجئون وبقوا فيها حتى يومنا هذا كما يقول وهدان وخطاب، ومثال ذلك الحاجة مريم عيّاد التي تقيم على أرض الأوقاف في الوقت الذي يقيم فيه أبو ناصر على أرض تعود ملكيتها في الأساس إلى أهل البلد. وقد بقيت العلاقة بين القرية والمخيم طيبة وممتازة ولم تتولد بينهم الحساسيات جراء ذلك، مع أنه ما زال نحو 30% من سكان المخيم، كما يقول وهدان، يقيمون على أراضٍ تعود ملكيتها إلى أهل القرية الأصليين.

ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية لسكان المخيم لدى الجهاز المركزي للإحصاء أو الأونروا أو حتى اللجنة الشعبية، إلا أنّ تقديرات أبو ناصر وخطاب ووهدان تشير إلى أنّ سكانه حالياً يناهزون 450 نسمة؛ أي حوالى ثلث سكان قرية عين عريك. أما الذين يحملون بطاقة وكالة الغوث في البلد ككل، فهم بحدود 70% وفقاً لذات المصدر. وحسبما تشير كل التقديرات، فإن من سكنوا المخيم منذ تأسيسه في عام 1948 كانوا بالآلاف هاجر معظمهم في عام 1967. فبعد الحرب نزح هؤلاء تحت وقع الخوف من المجهول والتهديد والترهيب الذي تعرضوا له آنذاك، فمنهم من توجه إلى الأردن ومنهم من توجه إلى مخيمات أخرى قريبة كما يروي أبو ناصر ووهدان والحاجة جابر.

ويمكن المتجول في جنبات المخيم ملاحظة آثار الغرف المتراصة التي كانت تعود كل منها لعائلة، فقد كانت الوكالة منذ عام 1964 تخصص للعائلة المكوّنة من أربعة أنفار غرفة بمساحة تسعة أمتار، أما العائلات المكونة من خمسة أو ستة أنفار فكانت تحظى بغرفة أوسع، وإذا بلغت العائلة سبعة أو ثمانية أنفار كانت تُمنح غرفتين من النوع الأول، وبالطبع دون أيّة مرافق، كما يقول أبو ناصر ويؤيده وهدان. أما عن سقف الغرفة وجدرانها فقد كانت مبنية من الطوب المسقوف بعقدة إسمنت لا يتعدى سمكها عشرة سنتمترات وكانت شديدة الميلان كي لا تحجز الماء شتاءً. مع تطور الوضع الاقتصادي لسكان المخيم، خرج جزء من المقتدرين منه بعد أن تملّكوا هناك، ما قلّص أعدادهم للحدّ الذي ذكرنا. ويعدّ حالياً سكان المخيم من قرية البرية الأكثرية بين السكان يتبعها اللاجئون من قرية القباب، ومن ثم بقية القرى بأعداد متفاوتة حسبما اتفق عليه خطاب وأبو ناصر.

وعن مشاهداته بعد احتلال عام 1967، يقول وهدان، إنّ عمره آنذاك كان عشر سنوات حين توافد المهجرون الجدد فارين من قنابل الاحتلال وصواريخه وأسلحته الفتاكة من قرى بيت نوبا ويالو وعمواس وبيت عور وبيت سيرا وبيت لقيا وغيرها. إلا أنه بعد أن استقرت الأمور واحتلت الأرض بالسرعة التي فاقت خيالاتهم عادوا إلى قراهم قبل أن يدخلها جنود الاحتلال، غير أن سكان بيت نوبا وعمواس ويالو عادوا ليشردوا من جديد بعد أن طردتهم العصابات الصهيونية آنذاك. وقد راودت والدي الرغبة بالهجرة إلى الأردن مثل الكثيرين، إلا أنّ ما رآه من مأساوية للوضع الفلسطيني هناك أعاده إلى مخيم عين عريك، مفضلاً معاناته على معاناة اللجوء مجدداً.

 الخدمات المنقوصة وعدم الاعتراف

يعاني سكان المخيم من عدم اعتراف وكالة الغوث به مخيماً رسمياً، ما يُضعف الخدمات التي تقدمها تلك الوكالة، فرغم أنها كانت تدفع حتى وقت قريب أجرة الأرض التي يسكن عليها جزء من سكان المخيم للأوقاف، إلا أنها قلّصت خدماتها للمخيم على نحو ملحوظ منذ السبعينيات حتى يومنا هذا.

ففي العيادة الوحيدة القائمة في المخيم كان الطبيب يداوم طوال الأسبوع، إلا أن ذلك تقلص إلى يومين فقط كما يقول خطاب ووهدان، وهذا لا يتناسب بطبيعة الحال مع حجم المراجعين للعيادة؛ إذ إنها الوحيدة التي تقدم الخدمات الطبية لكل اللاجئين من قرية عين عريك ومخيمها وقرى كفر نعمة ودير بزيع وبلعين وحتى اللاجئين الذين غادروا المخيم إلى خارجه، فبدلاً من زيادة أيام الدوام تقوم الوكالة بتقليصها، فضلاً عن عدم التزامها أيضاً بما وعدت به من بناء مدرسة للاجئين في المنطقة إذا ما وفّر المعنيون قطعة الأرض، وحين تمكنوا من ذلك ماطلت الوكالة بحجج ومبررات غير منطقية. والآن ليس في المنطقة سوى مدرستين صغيرتين مستأجرتين من الكنيسة الكاثوليكية؛ إحداهما ابتدائية آيلة للسقوط وتشكل خطراً حقيقياً على الطلاب وفق ما يقوله خطاب ووهدان، والأخرى إعدادية لا تفي بالغرض.

أما الكهرباء فقد وصلت إلى المخيم متأخرة في عام 1984، حيث بقي المخيم يعمل على مولدات الكهرباء منذ عام 1973، وهو ما جعل الناس يعيشون معاناة مضاعفة. ويعود السبب في ذلك إلى رفض الاحتلال السماح للشركة بالعمل في المنطقة، تماماً كما فعل مع شركة المياه حتى عام 2000، على حد قول وهدان.

يقوم المجلس القروي في عين عريك بجمع النفايات من المخيم بسيارة تبرّعت بها جهة يابانية لتخدم أربع قرى أخرى في المنطقة فضلاً عن المخيم، هي عين عريك ودير بزيع وكفر نعمة وبلعين. أما المجاري فهي مشكلة حقيقية في المخيم، إذ لا وجود لشبكة على هذا الصعيد سوى أنّ كل بيت يحتوي على حفرة امتصاص خاصة به، ما فاقم من معاناة السكان، حتى إنّ الضيق دفع بالبعض ممن رأيناهم في زقاق المخيم لبناء غرفة فوق الحفرة لتكون الفوهة داخلها، ما يسبب مَكرهةً صحية ومعيشية لا تطاق، ولا سيما عندما تمتلئ الحفرة ويحين وقت إفراغها.

وإذا جمعت هذه المعاناة إلى جانب تلك الناتجة من الاكتظاظ وضيق المساحات المتاحة، عرفت كم هي حجم المأساة. وقد خفف من ذلك تلك الشوارع التي تم أخيراً تعبيدها جميعاً على حساب مشروع أشرفت عليه وزارة المالية. أما عن وجود نادٍ للمخيم فليس متوافراً سوى أن اللجنة الشعبية -كما افاد عضوها خطّاب- قامت أخيراً بشراء قطعة أرض صغيرة على أمل أن تجد من يموّل بناء ناد عليها.

 عصا الاحتلال الغليظة

عانى سكان المخيم ممارسات الاحتلال القمعية من اعتقال وقتل وتضييق، فكثير من شبابه دخلوا السجون، ومنهم أبو ناصر الذي اجتمع له في السجن ثلاثة أبناء أثناء غربته خارج الوطن، ما راكم همومه ومعاناته أكثر فأكثر، فهو يتذكر كيف كانت زوجته تزور أحدهم وأمه تزور الآخر بينما الثالث يبقى من دون زيارة. أما عن الشهداء فهناك العديد منهم في القرية وفي المخيم، ومنهم عبد الرحمن خطاب (19 سنة) من قرية البرج الذي استشهد في عملية فدائية عند قرية الزّراعة بالقرب من بيسان في عام 1979. ويروي أخوه أحمد أنهم كانوا «يعلمون» أنه بعد إنهائه التوجيهية العامة آنذاك توجه للدراسة في يوغوسلافيا، وقد تفاجأوا بعد أقل من سنة ببرقية من الصليب الأحمر تطلب منهم القدوم للتعرف إلى جثة ابنهم.. فقد تبيّن أنه توجه إلى معسكرات التدريب الفدائية ليعود شهيداً مضرجاً بدمائه.

 نموذج العلاقات الإسلامية المسيحية المميزة

أما عن العلاقات الاجتماعية داخل المخيم ومع القرية، فهي علاقات مودة ووئام عزّ نظيرها، فالعدد القليل للاجئين في المخيم جعلهم أسرة واحدة يقومون بالواجب تجاه بعضهم على أكمل وجه في الأفراح وفي الأتراح، حيث أقاموا لذلك صندوقاً يشارك فيه كل من يحمل بطاقة هوية في المخيم. أما مع سكان البلد التي هي مزيج من مسيحيين كاثوليك وأرثوذكس ومسلمين فالبيوت متشابكة مع بيوت المخيم وكذلك العلاقات، فهم يضربون مثالاً يحتذى في الأخوة والمواطنة الصالحة.

جرت العادة أن يبادر المسيحيون بوليمة للمسلمين إذا مات منهم أحد، كما يقوم المسلمون بالأمر نفسه إذا كان الفقيد مسيحياً. وفي رمضان يبادر المسيحيون كل عام إلى دعوة المسلمين إلى وليمة إفطار يعدّونها لهم، بينما يقوم المسلمون بذات الأمر بعد صوم الأربعين عند المسيحيين. وقد أضفت مثل هذه العادات على الناس شعوراً بالارتياح ممزوجاً بمستوى عال من الفخر والاعتزاز، كما ذكر لنا خطاب.

 رغم المعاناة.. لا تفريط

مرور كل هذا الزمن على الكبار أو الصغار لم يُنسهم الوطن ولم يَخلق في ذهنهم بديلاً لحقهم في العودة إلى الديار. ويستطيع المرء لمسَ ذلك من ردة فعل الناس إذا ما سئلوا عن إمكان النسيان وطيّ الصفحة، فالحاجة مريم جابر انتفضت صارخة: «لا، لن أنسى ولن أبيع حصتي في عنابة لا بالقليل ولا بالكثير، إن لم ارجع أنا يرجع أولادي وأولاد أولادي ونحن لا نفرط في بلادنا»، وتستذكر الحاجة في هذا السياق فدّانين من الأرض كانا ينتجان 400 مسحة سمسم خلال العام قائلة بألم: «لم يبق من بلدنا حجر على حجر». أما الحاجة مريم عياد فتدعو على من تسوّل له نفسه «أن يبيع أو يفرط بمسقط رأسه أن يبيعه الله في نار جهنم، فالذي يبيع أرضه يبيع دينه وعرضه، فلو اضطررت لأكل التراب لن أبيع وطني وأرضي.. أنام على القبور ولا أفرط في ذرة من تراب بلادي» وهو لسان حال كل لاجئ حر لديه أمل بالمستقبل الواعد.

 


https://palcamps.net/ar/camp/89