مخيم اليرموك بين الانتماء والإدعاء


مخيم اليرموك بين الانتماء والإدعاء

مخيم اليرموك بين الانتماء والإدعاء 

الكاتب :إياد الحسن 

الانتماء أو الانتساب لمكان ما يعني الشعور بالاتصال أو الربط بذلك المكان. قد يكون هذا الربط مادي، كما في الحالة التي يكون فيها الشخص قد وُلد أو ترعرع في مكان معين، أو قد يكون معنوي عندما يرتبط الشخص بفكرة أو عقيدة ما تجمعه بأناس آخرين. في حالة المخيم فإن جمعه للمتناقضات على مدار سنوات نشوؤه منذ خمسينيات القرن الماضي جعلته مرجعاً هائلاً لكثيرٍ من الأفراد الفاقدين للانتماء. في البداية اجتذب اليرموك اللاجئين الأوائل الذين شهدوا على النكبة الأولى بعد ذلك تحول لحاضنة اجتماعية، ثقافية، فكرية، للكثيرين.
بين هذه الفكرة وما أريد الوصول له من هذا المقال أريد أ أطرح سؤالاً مُلِحَّاً: كيف كان المخيم حاضنة لأفراد لم يروه أصلاً في وقت يصارع أبناؤه الأصليون لإخفاء هويتهم "المخيميّة" في أوروبا؟

في بادئ الأمر عندما بدأت هجرات مختلفة لليرموك بسبب الحروب في دول الجوار كفلسطينيِّ دولة العراق أو الفلسطينيين من الأردن بدأت شخصية المخيم تأخذ منحىً تصاعدياً بالانفتاح الثقافي والفني على مجالات مختلفة. فبدأ الجيل الثالث من أبناء اليرموك بالتعرف على الأبناء المهجرين هؤلاء ضاميناً إياهم لصورة المخيم الفسيفسائية التي شكلت حالة خاصة في جنوب دمشق. فأصبح اليرموك ملتقىً كبيراً ومركزاً للفن الحر فاستقبل الفنانة الراحلة ريم البنا على مسرح المركز الثقافي العربي سنة 2009 ومنه بدأت حركة أبناء الجيل الرابع نحو الموسيقا الشبابية كالراب والميتال تشكل منفذاً لهم. وعلاوة على ذلك أصبح الأبناء الجدد لليرموك ينصهرون شيئاً فشيئاً في جسد المخيم إلى أن صبغت شخصياتهم بهالة المخيم المتفانية. أما أبناء المخيم الأصليون فقد أصبحت الفنون المختلفة مرآتهم نحو العالم وقد تجسد ذلك من خلال فيلم "شباب اليرموك" للمخرج الفرنسي الراحل أكسل سيلفا توري سانز من بطولة مجموعة شباب من اليرموك من أبناء الجيل الثالث أمثال الشهيد حسان حسان. ومنه أصبح المخيم علامة فخر لأبنائه الذين ما تركوا فرصة إلا وأثبتوا أنهم مازالوا ينتمون إليه رغم كل صعوبات حياة "اللاجئ الفلسطيني" في سوريا.

بعد ذلك حصلت النكبة الثانية أو ما تسمى بنكبة اليرموك لا شيء إنما لتشابه مشاهد الهروب بين النكبتين وتشرد 160 ألف فلسطيني بين محاصرٍ، ونازح، ومهاجر، وشهيد. وهنا وصل أبناء الجيل الرابع إلى أوروبا بين سنة 2013و 2015 آخذين معهم صورة المخيم كما تركها لهم أبناء الجيل السابق مع فارق بسيط وهو تعرضهم للتشرد في محيط قارة كاملة، فأصبح أولاد الحارة الواحدة في دولتين مختلفتين مما جعل الجيل الرابع يعاني من الصور النمطية التي فوجئ بها عن مخيم اليرموك في عيون الآخرين. فالآخرون من المجتمعات العربية الأخرى أصبحوا يوسمون اليرموك بوصمات عار مختلفة كاللهجة والكلمات المفتاحية للهوية الفلسطينية في المخيم. مما دفع بعضهم لإخفاء هويتهم "المخيميّة" كي يندمجوا أسرع ومنهم من غير اسمه أو طريقة حديثه ليصبح الترابط مع هذه الجماعات أسلس ودون وصمات اجتماعية مسبقة. وهذا ما يوصلنا نحو المعضلة الأكبر، أنه في الوقت الذي أخفى به شباب الجيل الرابع هويتهم، اقتحم دخلاء هوية اليرموك وأصبحوا يتحدثون باسمه لأسباب مختلفة منها التريند، المشاهدات، ومحاولة الوصول للمتلقي البسيط المدفوع بالعاطفة. فكوَّن هؤلاء الدخلاء هوية جديدة باغتت حتى أكثر أبناء المخيم انتماءً مما جعلهم أبناءً لليرموك حتى دون أن يطئوه ويبنون قضية كاذبة على أكتاف قضية المخيم. فمنهم من باع دم شهداء اليرموك كي يظهر في حفلة ما، ومنهم من ادعى الثورية على مواقع التواصل الاجتماعي وهو يشتم المخيم علناً دون حساب أو رقيب.

وهذا ما يقودنا نحو السؤال الذي طرحته في بداية المقال عندما كان المخيم حاضنةً جامعة للكثير من الأطياف اصطدم أبناؤه بالصورة النمطية عن "ابن المخيم", مما جعلهم جميعاً تقريباً ينصهرون ضمن مجموعاتهم الاجتماعية الجديدة. مما ينذر بأزمة هوية لأبنائنا مستقبلاً عندما يسألوننا عن معنى المخيم، فإن زواله جغرافياً حالياً كقوة ضاغطة يجعل بقايا الأبنية المدمرة مجرد آثار على حياة سابقة. ومع تزايد أعداد المتسلقين على أكتاف اليرموك أصبح من الضروري على الأقل كي يدفن المخيم بشرف في مقبرة الذاكرة أن يعود أبناؤه إلى هويتهم الحقيقية ويواجهوا الصورة النمطية مجتمعين على أن اليرموك لم يكن أبداً مدعاةً للخجل فهو شئنا أم أبينا كان مكان طفولتنا الأول. ختاماً إن الصورة النمطية للمخيم لا تعبر عن حقيقته مطلقاً والشواهد كثيرة من الساسة إلى أطفال الشوارع. حتى لا أناقض نفسي فإن الارتباط بالمخيم لا ينبع من فكرة "المخيم" كتشرد دائم للفلسطيني، بل هو ذاكرة المكان حسب نظرية إدوارد سعيد وما يحدث حالياً هو تعدي وإنكار لذاكرة المكان.  ومن هنا فإن الهوية "المخيميَّة" لا تحتاج لكثير من المبالغة لا في الإخفاء ولا في الإظهار فهي سليقة مدارس الأونروا وإن لم تستطع تلك الأيام أن تترك فينا شيئاً ما فالأفضل تركها تموت في سلام مع كل الذكريات، ولكن دون تكلف فهي مقدسة. أخيراً بوصلتنا هي فلسطين وكما كان المخيم هو الجسر إليها فإنها كانت ومازالت هدفنا جميعاً.



https://palcamps.net/ar/post/163