المخيم في روايات غسان كنفاني (3)... وائل غالب بيَّاعة ـ محمد أحمد زغموت خالد محمد بكراوي


المخيم في روايات غسان كنفاني (3)... وائل غالب بيَّاعة ـ محمد أحمد زغموت  خالد محمد بكراوي

المخيم في أعمال غسان كنفاني الروائية:

يعرف القاصي والداني، المكانة والأهمية الخاصة، التي يتمتع بها غسان كنفاني، أديباً ومبدعاً وشهيداً.. وتتنوع أعمال غسان بين الرواية والقصة القصيرة والمسرح والدراسات والفن التشكيلي والعمل الصحفي.. صدر معظمها في آثار كاملة، عبر مجلدات عدة، سيكون المجلد الأول منها[1]، مرتكزنا في هذا الحديث، خاصة وأنه يضم الروايات، التي أصدرها غسان كنفاني في حياته، إضافة إلى الروايات التي لم تكتمل، والتي أصدرت بعد استشهاده المفجع، باغتياله الآثم على أيدي الصهاينة، في الثامن من تموز عام 1972، في الحازمية ببيروت، بانفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارته.

نتوقف هنا أمام أعمال غسان كنفاني الروائية، وقفة خاصة، نرصد من خلالها موضوع المخيم الفلسطيني، لاسيما وأن الأديب غسان كنفاني رصد حياته وأعماله للقضية الوطنية والقومية، قضية فلسطين.. ومضى في سبيلها شهيداً.

غسان كنفاني والمخيم في الواقع:

«عندما باشرت التدريس، واجهت مصاعب جمة مع الأطفال الذين درستهم في المخيم، فقد كنت أغضب دائماً لدى مشاهدتي طفلاً نائماً أثناء الصف، وببساطة اكتشفت السبب: لقد كان هؤلاء الأولاد يعملون في الليل، يبيعون الحلوى أو العلكة أو ما شابه، في دور السينما والطرقات. وبالطبع كانوا يأتون إلى الصف وهم في غاية التعب. إن حالة كهذه تقود الإنسان فوراً إلى جذور المشكلة».

هكذا يبدأ الأديب غسان كنفاني، الحديث عن علاقته بالمخيم، وهو الفلسطيني الذي ولد وسكن المدينة (أصلاً) ولجأ إليها... فعندما طرد مع أهله وشرد من مدينة عكا، إثر نكبة العام 1984 عاش الغربة والمنافي، في دمشق، أو الكويت أو بيروت..

ويتابع الروائي غسان كنفاني حديثه، لذات المصدر، فيكشف عن دهشته عندما وجد أطفال المخيم يجفلون، عندما طلب منهم رسم تفاحة أو موزة.. لأنهم لم يشاهدوا، ربما هذه الأنواع من الفاكهة في حياتهم، أو لم يألفوها، فيقول عن أطفال المخيم الذين صادفهم بسبب عمله كمدرس «كانت العلاقة بين أحاسيسهم وهذه الرسوم، علاقة متوترة، لا علاقة جيدة، كانت تلك نقطة تحول حاسمة.. ونتيجة لذلك، محوت الرسوم عن اللوح، وطلبت من الأطفال أن يرسموا المخيم».

بتدقيق وملاحظة هذه المقتطفات من أقوال الأديب غسان كنفاني، التي أدلى بها، في حديث خاص لكاتب سويسري، ونشرتها مجلة شؤون فلسطينية (عدد/تموز 1974)، أي بعيد استشهاد غسان بسنتين، نجد المؤشرات الواضحة، حول طبيعة العلاقة التي كانت تربط فيما بين غسان كنفاني الإنسان، والمخيم الفلسطيني، في الواقع... إذ نتبين أولاً أن غسان لم يعش في المخيم، وهو بالتالي لم يعرفه معرفة يومية عيانية داخلية.. وعلاقته الحقيقية والعميقة بالمخيم بدأت من خلال عمله كمدرس لمادة الرسم في مدارس المخيم، الأمر الذي يدل عليه حديث غسان، أو اعترافاته الأخيرة بتعبير آخر..

فمن خلال عمله كمدرس، بدأ يكتشف طبيعة المخيم، وحال ناسه، بدءاً من عمل الأولاد ليلاً، ليعتاشوا، أو ليساعدوا أسرهم، وصولاً إلى دهشته إذ عرف أن أطفال المخيم لا يعرفون الفاكهة!!... فهو لو كان على علاقة عميقة، أو معرفة حقيقية، بالمخيم، لما استدعى ذلك اكتشافاته، ودهشته، التي يعلنها في حديثه المذكور، لاسيما وأن ذلك حدث إبان عمله كمدرس في مدارس وكالة الغوث، الأمر الذي دفعه نحو المخيم.

وثانياً: يؤكد غسان كنفاني «أن تراكم خطوات صغيرة كهذه يدفع الناس إلى اتخاذ قرارات من شأنها أن تترك طابعها على حياتهم بأكملها»... ويستطيع المرء أن يدرك القرارات الحاسمة التي اتخذها غسان كإنسان، والتي كانت تتلخص في الانحياز التام، إلى الوطن والقضية والهموم العامة، خصوصاً إذا أدركنا أنه أحد الفلسطينيين، الذين لم يعيشوا في المخيمات الفلسطينية، ويلاقوا قهرها وقسوتها، ويتذوقوا مرارتها.. وأنه أحد (المحظوظين) الذين استطاعوا الوصول إلى بلاد المال والعمل والثروة (الكوب) في وقت مبكر جداً، دون أن يموت على الطريق إليها. في خزان الصهريج، كما حصل مع أبطال روايته «رجال في الشمس». ولم يداهمه الموت (لحسن الحظ) في بلاد الثروة والمال، كما حصل مع بطل رواية جمال ناجي «الطريق إلى بالحارث»، أو كما حصل مع بطل رواية إبراهيم نصر الله "براري الحمى».

وكان يمكن لغسان كنفاني (ببساطة، ودون أدنى ضغينة) أن يبقى في الكويت ويحصل ويراكم الأموال، ويصبح أحد الأثرياء الفلسطينيين الكبار، ممن نسمع عنـهم اليوم. ولكن قراره الحاسم والنهائي، كان في العودة. من الكويت، فقط من أجل الانخراط في لثورة، وفي النضال المباشر، بحيث غدا علامة فارقة في الإبداع والنضال بالكلمة، في مجال القصة، والرواية، والمقال الصحفي، والفن التشكيلي، وكتابة المسرحية، والدراسات الأدبية والنقدية.. إضافة لتحوله إلى عنوان نضالي، عندما غدا شهيداً تتأثر جسده شظايا، عندما اغتالته غدراً، يد القوى الصهيونية، بمتفجرة وضعت في سيارته في 8 تموز 1972.

إن رصد تحولات غسان كنفاني، التي جاءت نتيجة تطور قناعات ذهنية وإيديولوجية، لديه، فانخرط في صفوف العمل السياسي والتنظيمي، بدءاً من العام 1960، في حركة القوميين العرب، ثم في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد نكسة حزيران 1967.. سيساهم في كشف حقيقة الرؤى التي قدمتها أعماله الروائية، دون أن ننسى أن صعوبة ما تكتنف تحديد كامل الرؤى التي قدمها غسان، إذ أننا نقتصر، هنا، على رواياته فقط، بمعزل عن القصص القصيرة، والمسرحيات والمقالات، والدراسات، والرسوم التشكيلية... فقد كان غسان كنفاني يعبر عن نفسه بأكثر من شكل أدبي وفني، وما لم يورده في هذا الشكل، ربما (أو لا بد أن) يكون قد اشبعه في نمط أدبي إبداعي آخر.

وهكذا ينبغي الاعتراف (صراحة) بأن توقفنا عند المخيم في روايات غسان كنفاني، سيتضمن ظلماً له، لأنه لا يشمل كل التعبيرات والصور، والرؤى، التي شكلها غسان عن المخيم، فسيرى القارئ أن بعض الصور، والقضايا، والأحوال، والتفاصيل والإشكاليات، التي يعاني منها المخيم الفلسطيني، تظهر في العديد من القصص القصيرة، التي كتبها... ولكن ليس أمامنا هنا، لضرورات البحث، سوى التوقف أمام ظهورات المخيم في روايات غسان كنفاني... رغم كل شيء..

رجال في الشمس/ غسان كنفاني 1963:

صدرت رواية «رجال في الشمس» عام 1963، وهى أولى الروايات التي أصدرها الروائي غسان كنفاني، وقد حازت على نجاح وشهرة، واسعتين، وبات موضوع هذه الرواية، وحكايتها، أشهر في أن نعود للتعريف بها، وقد حولت إلى فيلم سينمائي ناجح تحت عنوان «المخدعون»، أخرجه المخرج المصري توفيق صالح عام 1972 لصالح المؤسسة العامة للسينما في سوريا..

كما غدا النداء الذي يعلنه ي نهاية الرواية متسائلاً «لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟..»[2].

أحد الشعارات الأكثر تداولاً ورواجاً في الميدان الثقافي السياسي الفلسطيني، وربما العربي، باعتباره إشارة ونبوءة من رجل مبدع، يتلمس إرهاصات ولادة الثورة الفلسطينية المعاصرة، ويثير سؤالها، كما اتفق الكثيرون ذلك، حتى أولئك الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة ما كتبه غسان كنفاني.

تدور أحداث الرواية في العام 1958، حيث تتكرر الإشارات الدالة على زمن الحدث الذي نتابعه، أقلها... «الأرض التي تركها مند عشر سنوات..»[3]. و«مرت عشر سنوات على اليوم الذي اقتلعوا فيه رجولته منه»[4]. وذلك كله مما يعنى بوضوح أنه قد مضى على النكبة عشر سنوات، وكان عمر المخيم بالتالي، حينذاك؟ أيضاً عشر سنوات، بكل ما يمكن الحديث عنه. في أحداث وشخصيات وتحولات وتطورات، حصلت، بعد طول وشدة معاناة.. فكيف ظهر المخيم في هذه الرواية؟..

في الحقيقة ومن خلال شخصيات الرواية الأساسية (أبو قيس، أسعد، مروان، أبو الخيزران) سنجد أن مروان هو من يبدو بينهم، كأحد أبناء المخيمات، وقد ترك مخيمه، وذهب يسعى في هذه الرحلة القاتلة. ولا يظهر المخيم إلاّ من خلال الحديث عن والده «أنه رجل معدم. لقد كان طموحه كله، هو أن يتحرك في بيت الطين الذي يشغله في المخيم منذ عشر سنوات ويسكن تحت سقف من إسمنت»[5]، فالبحث عن سقف من إسمنت، هو الهم الذي يسيطر على الوالد، ولذلك ذهب ذاك الوالد ليتزوج من امرأة كسيحة، فقط لأنها تملك بيتاً له سقف من الإسمنت.

يترك الوالد أسرته، ليحقق طموحه الشخصي، ويتخلص من الأعباء التي تلاحقه، وينـام تحت سقف إسمنت. وسيترك مروان مخيمه. ويذهب ليحصل بعض المال له ولأسرته، وفي مخيلته الوالد الذي ترك أسرة من أربعة أطفال، ومضى إلى زوجة كسيحة، ببيت سقفه إسمنت، وشقيقه زكريا، الذي غادر من قبل إلى الكويت وانقطعت أخباره.

من الملاحظ هنا، أن الروائي لم يأبه للحديث عن المخيم، بقدر ما اهتم بالحديث عن مروان، ومشاكله وقضاياه وأحاسيسه... حتى أنه لم يذكر اسم ذاك المخيم.. وتبدو من المخيم صورة الفقر، من خلال بيت الطين، ولكن هذا لا يشكل خصوصية للمخيم، فقط، بل هو من خصوصيات الفقر عامة ولوازمه. وفي نفس الوقت ندرك أن هاجس الروائي كنفاني، كان ينصب في الحديث عن أولئك الذين يبحثون عن الحل الفردي، وعن أولئك الذين يسلمون أمورهم قيادة عاجزة مخصية (وهذا هو هاجس الرواية وهمها) وفضح نهاياتهم البائسة.. والواهمون، بطبيعة الحال، موجودون، دون شك، في أوساط الفلسطينيين، أينما وجدوا في سوريا، والأردن، لبنان، وفي أي مكان، سواء أكانوا في المخيم أو غيره.

وبهذا يكون الروائي، في عمله هذا، يناقش رؤيا تخص القضية الفلسطينية، بشكل عام، وبطريقة ذهنية، وما الأبطال إلا حوامل لأدوار يؤدونها، لتأسيس المقولة والرؤيا العليا للرواية، دونما عناية بتفاصيل روائية صغيرة، كاد لا بد منها، حتى تتوضح الصورة الروائية، وتتعزز الدوافع الفردية المؤهلة لخوض هكذا رحلة قاتلة. أي أن الروائي أفلت من بين يديه بؤرة خصبة وغنية للحديث.

ومن الملفت أن فيلم «المخدوعون» الذي صيغ عن ذات الرواية، وأخرجه المصري توفيق صالح، يقوم، بإضافات من قبل المخرج، برصد صور من حياة المخيم، عبر مشاهد وثائقية، وشبه وثائقية، على النحو الذي يصور حياة اللجوء، ومعاناة أبناء المخيمات، ومرارة العيش، وضنكها.. وذلك من خلال تفاصيل متعددة، تساهم بمجموعها، في بنـاء صورة القهر، والمعاناة، التي يعيشها أبطال الرواية في أماكن اللجوء، في قهر وفقر ومعاناة.. الأمر الذي يبرر لأبطال الرواية انخراطهم في هذه الرحلة التي لا يعرف إلى أين تنتهي.. أي أن الفيلم أشبه إلى هده النـقطة الهامة. والمؤسسة، في حين تجاوزها الروائي. فلم يكن الروائي غسان كنفاني في هذه الرواية مهتماً بالحديث عن معاناة المخيم، ودوره، وحضوره. وسنجد أن ما ورد في هذه الرواية عن المخيم، هو مجرد إشارات عابرة. فحسب.

 

 

[1] كاتب سويسري، حديث خاص مع غسان كنفاني  قبل استشهاده، مجلة شؤون فلسطينية، العدد35، تموز1972، ص136

[2] كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، المجلد الأول، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1986، ص152

[3] كنفاني، غسان، الآثار الكاملة، المجلد الأول، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط3، 1986، ص37

[4] المصدر السابق، ص109

[5] المصدر السابق، ص80



https://palcamps.net/ar/post/182