رسالةٌ سرقت وطن وشردت شعب


رسالةٌ سرقت وطن وشردت شعب

 بقلم الإعلامية وفاء بهاني

رسالة غيرت حياة شعب كانت الرسالة التي تعرف حاليا بتصريح بلفور أوضح تعبير عن تعاطف بريطانيا مع مساعي الحركة الصهيونية لإقامة وطن لليهود في فلسطين حيث طلب فيها بلفور من روتشليد إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة وايرلندا بموقف الحكومة البريطانية من مساعي الحركة.
ورغم أن الرسالة لا تتحدث صراحة عن تأييد الحكومة البريطانية لإقامة دولة لليهود في فلسطين، لكنها أدت دوراً أساسياً في اقامة دولة اسرائيل بعد 31 عاما من تاريخ الرسالة، أي عام 1948
‎كما ساهمت الرسالة في تشجيع يهود القارة الاوروبية على الهجرة الى فلسطين خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، في وقت كانت القارة تشهد صعودا للتيارات القومية المعادية للسامية

 أما بالنسبة للأسباب التي دفعت بريطانيا إلى إصدار هذا الوعد، فهناك أكثر من تفسير لذلك، أهمها أن بريطانيا أرادت الحصول على دعم الجالية اليهودية في الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الاولى لما تتمتع به من نفوذ واسع هناك لدفع الولايات المتحدة للاشتراك في الحرب الى جانب بريطانيا.
وهناك تفسير آخر وهو الاعتقاد بأن العهد القديم يضمن حق اسرائيل في فلسطين.
ولا تتضمن الرسالة كلمة "دولة" بل تتحدث عن وطن وتؤكد على عدم القيام بأي شي يمكن أن يمس الحقوق المدنية والدينية للجماعات الاخرى التي تعيش في فلسطين.
وجاءت رسالة بلفور تتويجا لسنوات عديدة من الاتصالات والمفاوضات بين الساسة البريطانيين وزعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا. فقد كان موضوع مصير الاراضي الفلسطينية قيد البحث في دوائر الحكم في بريطانيا بعد دخولها الحرب العالمية الاولى مباشرة. وجرى اول لقاء بين حاييم وايزمان، زعيم الحركة الصهيونية لاحقا، وبلفور عام 1904 وتناولت موضوع إقامة وطن لليهود في فلسطين .

واهمٌ من يظن أن مرور أكثر من مائة عامٍ على وعد بلفور المشؤوم، الذي صدر في ظل ضعف العرب وفقدانهم لاستقلالهم، وانشغال المسلمين وغياب سيادتهم، وخضوعهم للاستعمار الأوروبي والانتداب الدولي، وخديعتهم والتضليل بهم، بعد سقوط دولة خلافتهم وانهيار امبراطوريتهم، وتناوش الغرب لها وتكالبهم على أملاكها، سينسي العرب والمسلمين حقهم الخالد في فلسطين، وسيدفعهم إلى اليأس والقنوط، والاستسلام والخضوع، والقبول بالواقع والاعتراف بالعجز والضعف والخور وقلة الحيلة، والإقرار للعدو بما سرق والاعتراف بشرعية ما نهب، والبناء على هذا الواقع إلى الأبد، وكأنه قدرٌ لن يتغير، وحقائقٌ لن تتبدل.
الحقيقة التي يجب أن يعلمها العدو والصديق، والشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، أن حالة الضعف التي كانت قد ولت وانتهت، وأن ظاهرة الاستخفاف بالعرب والمسلمين لن تتكرر، وأن خداعهم من جديد والتفرد بهم مرةً أخرى لن يكون، وأن الشعوب التي كانت مستضعفة قد قويت، والتي كانت مستخذية قد انتفضت، والتي كانت تغط في نومٍ عميقٍ وسباتٍ طويلٍ قد فاقت ونهضت، ولم يعد من السهل على أي جهةٍ مهما بلغت قوتها وعظمت هيمنتها، أن تفرض على الشعب الفلسطيني حلاً لا يريده، أو أن تملي عليه أمراً لا يقبل به، أو يرى فيه ظلماً له واعتداءً على حقه، وافتئاتاً على شعبه، وتجاوزاً لنضاله.
الفلسطيني اليوم ثائرٌ منتفضٌ، ومقاومٌ مناضلٌ، وواعٍ منتبه، ومدركٌ يقظٌ، فلا تسهل خديعته، ولا تنطلي عليه الحيل، ولا تؤثر فيه المكائد، ولا تفت في عضده الخسائر، ولا توهن من عزيمته قوة العدو ولا تفوقه، بل إن قوته تزداد، وعزمه يمضي، وإرادته تقوى، وقدرته على الصبر والاحتمال تتعاظم، ويقينه بالنصر لا يتزعزع، وثقته بنفسه بعد الله عز وجل كبيرة، واعتماده على شعبه وأمته يزيد من قوته، ويشد من أزره.
إن مرور مائة وأربعة أعوامٍ على الوعد الباطل لا يدفع العرب والمسلمين إلى اليأس والإحباط أبداً، ولا يقودهم إلى القنوط والاستسلام حقاً، ولا يجعل العدو أقوى عدةً وعتاداً، ولا أكثر ثباتاً واستقراراً، أو أشد بأساً وبطشاً، بل إن المناسبة المئوية لهذا الوعد إيذانٌ قاطعٌ ووعدٌ صادقٌ لنا جميعاً، بأننا ننطلق بيقينٍ نحو الوعد الرباني الصادق، واليقين الإلهي الثابت، باستعادة الحق الخالد وتحرير الأرض المباركة، وتطهير الأقصى والمسرى والقدس والمقدسات، وأن ما كان لنا سيعود إلينا، وأن ما فقدنا سيرجع لنا، وقد بدأنا بحمد الله وفضله مرحلة الصعود وزمن التحدي، ولم تعد شوكتنا سهلة ولا عريكتنا رخوة، ولا عزيمتها رهوة، والعدو بات يعرف عنا هذا ويدرك، ويخاف منه ويقلق، وأجيالنا الطالعة الواثقة بنفسها ترهبه وتربكه، وتخبره أنها على استعدادٍ لمواجهته، وعلى موعدٍ مع هزيمته، وعليه أن يستعد لخاتمته، وأن يعد العدة لنهايته أسطورته.
لكن الطريق إلى تحقيق وعد الله الخالد باستعادة الأرض وتحرير المقدسات لا يكون بغير المقاومة، فهي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين واستعادتها، وهي الطريق الذي يقودنا إلى إبطال هذه القرار وإعلان فساده وبطلان مفاعيله، وهي التي تجبر العدو وتقهره، وترغمه على التراجع والانكفاء، والخضوع للواقع والقبول بالحق والإذعان لأهله، وبغير ذلك يخدعنا الداعون إلى السلام، والمؤمنون بالتسوية، والمراهنون على المفاوضات، والحالمون بالحوار، فهذا عدوٌ لا يذعن بغير القوة، ولا يستسلم لغير المقاومة، ولا يتراجع بدون خسائر، ولا ينكفئ من غير تهديدٍ فعلي ومواجهةٍ حقيقيةٍ، والتاريخ على سيرته شاهدٌ، ووقائع الزمن على مسيرته محفوظة.
في هذه الندوة التي نعقدها في الذكرى الرابعة بعد المائة لتصريح بلفور المشؤوم.

إن علماء الأمة خير من يقوم بالتصدي للمشروع الصهيوني وللقوى التي تسانده وتؤيده، ذلك أن معركتنا مع الكيان الصهيوني تقوم على وعدٍ إلهي، وتستند إلى نصوصٍ دينيةٍ وآياتٍ قرآنية، فوجب على العلماء الذين هم ورثة الأنبياء صيانتها وحمايتها، وتحصينها والعمل على الحفاظ عليها لهذا الجيل ولكل الأجيال القادمة، وعليهم أن يعملوا على إحياء الأمل في نفوس عامة المسلمين، والتأسيس لوعد الله الآخر بزوال بني إسرائيل، وتفكيك ملكهم، وإنهاء وجودهم، وتخليص العالم والبشرية من شرورهم.
وعليهم أن يعلنوا صراحةً أن الاعتراف بالكيان الصهيوني والقبول به دولةً والتعايش معه واقعاً، كفرٌ وخيانةٌ، وتفريطٌ وإساءةٌ، يبرأ الله عز وجل ورسوله والمؤمنون من مرتكبها، ويرفض المسلمون جميعاً الانجرار إليها والقبول بها، فالاعتراف بالكيان الصهيوني حرامٌ شرعاً، وهو جريمةٌ سياسية، وانتهاكٌ خطيرٌ ضد الإنسانية، واعتداءٌ صارخٌ على أصحاب الحقوق وأهل الأرض.

لا يراود المؤمنين بحقهم من العرب والمسلمين شكٌ بأن دولة الكيان الصهيوني إلى زوال، وأن المستقبل القريب سيشهد زوالها وشطبها من الخارطة السياسية وانتفائها من الوجود، فهذا وعد الله الخالد لنا، ويقين المسلمين الباقي بينهم، وكل الدلائل تشير إلى قرب هذا اليوم ودنوه، وأنه بات قريب الحدوث ووشيك الوقوع، ولعل اليهود أنفسهم يوقنون بهذا المصير ويعرفونه، ويتوقعونه قريباً ويتهيأون له، وعندهم من الروايات ما تؤكده ومن القصص ما تعززه، وقد بدأ بعضهم يخطط للرحيل ويستعد للمغادرة، ليقينهم بأن هذا الوعد قد اقترب، ويوم الخلاص منهم قد دنا، وساعة الانتقام منهم قد أزفت، رغم أنهم يخفون هذه الروايات وينكرون بعضها، ويحاربون انتشارها ويتهمون مروجيها.
إن الإيمان بهذا الوعد واجبٌ، واليقين به لازمٌ، والشك فيه خيانة، وإنكاره كفرٌ بثوابت الأمة وحقوق المسلمين، فإسرائيل كيانٌ إلى زوال، ووجودٌ إلى انتهاء، ودولةٌ إلى تفكك، وشعبٌ مصيره الرحيل والمغادرة، فعلى المسلمين جميعاً الإيمان بهذا الوعد، والاستعداد له والعمل من أجل تحقيقه، وعدم الركون إليه وانتظاره دون جهدٍ أو عمل، أو مقاومةٍ وقتال، بل إن علينا أن نعجل للوصول إلى هذا اليوم، وأن نجتهد لضمان تحقيقه قريباً ويقين إنجازه صدقاً، وهذا أملٌ ورجاءٌ يلزمه عملٌ جادٌ وعزمٌ كبيرٌ وإرادةٌ صادقةٌ، واستعدادٌ دائمٌ وتخطيطٌ علميٌ منظمٌ، لا يعرف الفتور، ولا ينتابه اليأس أو الخوف والجزع.

تصريح بلفور هو الذي أسس للظلم، وهيأ لحالة عدم الاستقرار في المنطقة، عندما زرع البريطانيون في أرضنا جسماً غريباً عنّا، ووطنوه في أرضنا رغماً عنّا، ومكنوه بالسلاح، وعززوه بالقوة، وحصنوه بالسياسة، وما زالوا يكلأونه بالرعاية ويكفلونه بالوصاية، ويغدقون عليه بالمساعدة، ويتعهدونه بالتفوق والتميز، وهم يعلمون أنه يستقوي بهم على أصحاب الحق، ويرهب بسلاحهم سكان الأرض، ويهدد بدعهم دول المنطقة وشعوبها.
ولعل بريطانيا قديماً واليوم، تتحمل كامل المسؤولية عن هذه الجريمة النكراء، التي هي أكبر جرائم العصر وأشدها قبحاً وسوءاً عبر التاريخ، ويشاركها في جريمتها دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، الذين سكتوا عن فعلتها وقبلوا بها، بل أيدوها وساندوها، وتعاهدوا معها على حماية الكيان الصهيوني وتحصين وجوده، وضمان أمنه وسلامة مستوطنيه، وتأمين مستقبله والحفاظ على مصالحه.

بعد مائة وأربعة أعوام على هذه الجريمة، ينبغي على حكومة بريطانيا أن تتراجع عن هذا الوعد، وأن تعتذر لشعب فلسطين وللأمة العربية والإسلامية عنه، وأن تعلن أسفها عن خطأها التاريخي وجريمتها الكبرى ضد المسلمين خصوصاً والإنسانية جمعاء، وأن تبادر من موقعها في مجلس الأمن الدولي ومعها الولايات المتحدة الأمريكية إلى المباشرة في إبطال مفاعيل هذا الوعد، وإعلان فساد الكيان الذي نشأ عليه وعدم شرعيته، في الوقت الذي يجب عليها أن تعوض الفلسطينيين عما أصابهم، وأن تعيد إليهم حقوقهم المغتصبة وأرضهم المحتلة وممتلكاتهم الضائعة، وسيادتهم المفقودة في وطنهم وأرضهم التاريخية فلسطين.
وعلى العالم الحر والإنسانية الحضارية أن تحاكم بريطانيا على جريمتها، وأن تعاقبها على فعلتها، وأن تحاسبها عما ارتكبت في حقنا، وأن تدين السياسيين على جرمهم القديم وسلوكهم المشين، وألا تبرؤهم من بشاعة ما اقترفوا، وهول ما قاموا به، خاصةً بعد تصريحات رئيسة الحكومة البريطانية التي أعلنت فيها فخرها بدور بلادها في تأسيس الكيان الصهيوني، واحتفت بإحياء الذكرى المئوية لوعد بلفور، ورفضت الاعتذار إلى الشعب الفلسطيني، لهذا فإن على المحاكم الدولية أن تعيد النظر في هذه الجريمة، وأن تكيفها قانوناً وتصدر أحكامها فيها وفقاً لحجم الضرر الذي نشأ عنها، والآثار السلبية التي لحقت بالفلسطينيين جميعاً، والأضرار التي تعرضوا لها وجعلت منهم لاجئين مشتتين، ونازحين مطرودين من أرضهم.

الحقيقة أنه لا شئ يبطل وعد بلفور وينهي مفاعيله، ويعيد فلسطين إلى أهلها سوى المقاومة، التي تبدو اليوم فتيةً عنيدةً قويةً، تقف في مواجهة العدو الصهيوني شامخةً، وتتحداه وتهدده، وتصده وتمنعه، وتخيفه وتردعه، وترعبه برسائلها وتقلقه بإشاراتها، وتجمده مفاجئاتها في أرضه وترعده تصريحاتها، إذ باتت المقاومة تراكم القوة، وتعد العدة، وتجهز للمواجهة، وتحذره من مغبة المغامرة وعاقبة المجازفة، فهي مقاومةٌ لم تعد تصد عدوانه وحسب، وتقاتله على أرضها وتكتفي، بل باتت تهدده في حصونه، وترعبه في مستوطناته، وتتوعده حيث يكون، وتنصحه بالرحيل والمغادرة، فهذه الأوطان ليست له، وهذه الأرض ملكٌ لأصلاء غيره، وأصحابها يتمسكون بها وإليها مهما طال الزمن سيعودون، وفيها سيعيشون، ولها من رجسهم سيحررون.



https://palcamps.net/ar/post/79